أثار حديث إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ عن إمكانية تحويل الإطلاع على النسخ الالكترونية لصحفه من المجان إلى دفع قيمة القراءة عن طريق الاشتراكات زوبعة في الجسم الإعلامي العالمي، وقال الكثيرون أن من شأن ذلك تحويل الصحافة إلى أداة تجارية فقط غرضها الربح والشهرة والاستحواذ على سوق الإعلانات.
ربما نسي هؤلاء أن مردوخ ليس من النوع الذي يتخذ قرارات بدون وعي، وأن الجرأة والإقدام شرط أساسي في المنافسة على سوق ما، أو ربما نسوا أن العلاقة بين الصحافة والصناعة علاقة أزلية قامت مع قيام الصحافة ولن تنتهي.
ما دعا مردوخ لأن يفكر في هذا الأمر هو ما يراه من تراجع على مستوى حجم توزيع الصحف الورقية، وضعف إقبال القراء على شراء الصحف يوما بعد يوم والتدهور في سوق الإعلانات، ورأى في الجانب الأخر زيادة في أعداد الصحف الالكترونية، وإقبال الجمهور ومن بينهم القراء القدامى للصحف الورقية إليها، وزحف سوق الإعلانات تدريجيا صوبها.
يقول المراقبون في الشأن الإعلامي أن المعلنين بدؤوا اللجوء وخصوصا في الأزمة المالية العالمية إلى المواقع الالكترونية ليعرضوا بضاعتهم وخدماتهم، وذلك ببساطة لأن الشباب اليوم يحجم عن الأشكال التقليدية للإعلام، فالجيل الذي يكبر اليوم لا يعتمد على الصحف التقليدية والمجلات والتلفزيون في معرفة الأخبار، والحصول على معلومات يرغب في معرفتها، بل يتوجه مباشرة إلى شبكة المعلومات.
في هذا المجال يقول رئيس تحرير جريدة الجزيرة السعودية خالد المالك في افتتاحية في الجريدة نفسها حول مستقبل الصحافة الورقية "مع أنه من المبكر جداً الحكم على الصحافة الالكترونية ومدى تأثيرها على مستقبل الصحافة الورقية بالنظر إلى أن صحافة الورق لا تزال إلى اليوم سيدة الموقف، فإن ذلك لا ينسينا ما نراه في جيل الشباب من افتتان بالمواقع الالكترونية متابعة لها واستفادة مما تضخه من معلومات بسرعة ومهنية عالية رغم حداثتها"، ربما صار اليوم بإمكاننا أن نحكم على عكس ما قاله الأستاذ خالد المالك، فالصحافة الالكترونية صارت أكثر وضوحا وأكثر انتشارا، فمن النادر أن تجد صحيفة في عالم اليوم لا تملك موقعا على الانترنت، أضف إلى ذلك تزايد ظهور صحف الكترونية بحتة لبعضها نفس الهياكل التنظيمية والإدارية للصحف التقليدية وتحصل على الإعلانات، وتمول نفسها ذاتيا، وتحقق أرباحا تثير إمبراطوريات الإعلام وحتى الدول، وتملك مؤسسات إعلامية، أو تكون ضمن مؤسسة إعلامية.
وفي رأيي ترجع شدة الإقبال على الصحف الإلكترونية إلى امتلاكها خصائص لم تستطع الصحافة الورقية أن تحققها، فالسرعة والمشاركة وتقليص دور الرقابة الحكومية هي ميزات تستأثر بها الصحافة الالكترونية دون الصحافة التقليدية.
القارئ اليوم يجد الأخبار والمعلومات منشورة بسرعة قياسية، بعد أن كان ينتظر صدور الطبعة الصحفية الورقية، مما مكن المتلقي من سرعة استجابته للمنشور، فيعبر عن رأيه عن طريق كتابة التعليقات أو انتقاد تعليقات موجودة، وينشر بسرعة كبيرة، والأهم من ذلك أن القارئ العادي صار بإمكانه صناعة الخبر وطرحه، أو إضافة معلومة لخبر منشور.
وبالنسبة لما تقدمه الصحافة الالكترونية لمهنة الصحافة بشكل عام فهي ترفع من سقف الحرية للمهنة في العالم النامي وتقلص تدريجيا دور الرقابة الحكومية واللاحكومية على ما ينشر، وتقوم كذلك بتطوير الأداء المهني للصحف والصحفيين، وتوسيع دائرة المعرفة، وإخراج الصحف من حدودها المحلية إلى فضاء أوسع، وهذا يعني كله خلقا للديمقراطية في بلدان لم تعهدها من قبل.
مع هذا لا بد أن نشير للآثار السلبية التي تتركها الصحافة الالكترونية مثل إتاحتها الفرصة لظهور مواقع غير مهنية قامت بإنشاء صحف الكترونية، وتتواصل مع القراء عبر لغة غير مألوفة، وأصبح بإمكان أي شخص أن يكون صحفيا، إضافة إلى ما يحصل فيها من كثرة لنقل للأخبار والمعلومات بدون ذكر المصدر، أو إهمال للمضمون وتركيز شديد جدا على الإعلانات، أو حتى عدم وضوح السياسة التحريرية نتيجة لتناطح الأفكار المتناقضة وتصادمها في الصحيفة الالكترونية الواحدة مما يخلق ارتباكا عند القارئ، وهذا كله سينتهي بمجرد أن تتطور قوانين المطبوعات والنشر لتلائمها.
وما أود أن أقوله هو أن الانترنت لا يهدد مهنة الصحافة ولا يجعلها في خطر، بل سيطورها فالناس سيقرؤن الصحف لكن بطرق غير تقليدية، سيجدونها عبر الشبكة المعلوماتية ويدفعون أجرها، ويرسلون إخبارهم ومقترحاتهم وردودهم ويشاركون بآرائهم، ويساهمون بالتالي في تقليص توزيع الصحف الورقية، وليس إنهاءها، لأنه ستظل عند البعض ذات مكانة عاطفية سامية، وحتى انه من المبالغ القول أن الصحافة التقليدية ستنتهي تماما على الأقل في المنظور القريب.
ستظهر صاحبة الجلالة وقد تبوأت مكانها بتصميم عرش جديد لها، عرش ملائم لجميع الناس تقريبا وللواقع، استخدمت فيه تقنيات الثورة التكنولوجية من شبكة دولية وصوت وصورة وفيديو، التي أعادت صياغة الجسم الإعلامي وفق منظور متكيف مع عصر السرعة والحق في المعرفة.
06 ديسمبر 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق